الجمعة، 25 سبتمبر 2015

نحو استراتيجية ذكية للمعرفة / المقال 5

نحو استراتيجية ذكية للمعرفة

المقال (5)

الحقل والنقل والعقل والإرادة

سلسلة يكتبها د. إدريس أوهلال


استعرضنا في المقال السابق نمذجات أساتذتنا الكبار الثلاثة للنظام المعرفي. وهي نمذجات تفتح آفاقا معرفية غنية، وتمنح إمكانات تحليلية على مستوى عال من الدقة والوضوح. لكن حصر النظام المعرفي في ثلاثة أنظمة فرعية هي البرهان والبيان والعرفان حسب الفيلسوف المبدع محمد عابد الجابري، أو العقل المجرد والعقل المسدد والعقل المؤيد حسب الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمن، أو العقل والنقل والإرادة حسب الأستاذ المربي عبد السلام ياسين، يفوت علينا فرصة اكتشاف مصدر الفعالية والجدوى الموجود في تفاعل هذه الأنظمة الثلاثة مع نظام رابع هو "الحقل"، كما يفوت علينا فائدة فهم وظيفة كل نظام، وطبيعة العلاقات القائمة بين هذه الأنظمة، والتأثيرات التاريخية والاجتماعية التي تطالها، وحدود سلطتها.

لا يمكن لأي باحث في "العقل والنقل والإرادة" أن يتجاهل ميدان حوار العقول، ومجال تطبيق النقل، وساحة صراع الإرادات؛ أي الحقل. فهو عالم الأجسام والمصالح، وعالم الدوافع والموانع، وعالم العادات والأعراف، وعالم العداوات والصداقات، وعالم الحرب والسلم.

في "الحقل" توجد طاقة المصالح المحركة، وفيه تكتسب الخبرة الإنجازية؛ لذلك نحتاج إلى مجاورة ومقابلة مفهوم الحقل مع مفاهيم "العقل والنقل والإرادة" لتكتمل عندنا صورة الجهاز المفاهيمي الحامل لمضمون معرفة الذات والعالم والعمل، وطبيعة العلاقات والتفاعلات الموجودة بين قطب الذات (العقل والإرادة) وقطب السلطة (النقل والحقل).

إن الحقل هو المجال التاريخي لتنزيل النقل، والحصيلة التاريخية لحوار العقول، وصراع الإرادات وتفاهماتها. إذ لا وجود لإرادة إلا بإزاء إرادات أخرى منافسة لها. ولا لفهم إلا بإزاء فهوم أخرى مجادلة له. ومجموع هذه الإرادات والفهوم المتحاورة، أو المتصارعة، أو المتفاهمة لا تتنزل في فراغ بل في واقع مادي اجتماعي تاريخي يوجد فيه لاعبون وتحكمه قواعد للعب يسمى: "الحقل".

نحو استراتيجية ذكية للمعرفة / المقال 4

نحو استراتيجية ذكية للمعرفة

المقال (4)

سلسلة يكتبها د. إدريس أوهلال


انتهينا في المقال السابق إلى ضرورة البدء بتحليل البنيات العميقة لأنظمتنا المعرفية للكشف عن العوائق المعرفية والأخلاقية والسياسية المانعة لنا من دخول مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة بعقلية وإرادة المتحدي لا بعقلية وإرادة التابع المسحوب.

لا توجد أي دولة في العالم دخلت في اقتصاد المعرفة رائدة أو متحدية دون الاعتماد على نظامها المعرفي. لكن مشكلتنا هي أننا لا نملك نظاما معرفيا واحدا أو مٌوَحِّداً، بل لدينا أنظمة معرفية متعددة ومتصارعة. فما هي هذه الأنظمة المعرفية؟ وما حدود سلطة كل نظام معرفي؟

توجد ثلاث مساهمات تحليلية نقدية متميزة، لثلاثة مفكرين كبار، انتهت إلى تقسيم متطابق لنظامنا المعرفي مع اختلاف في المفاهيم المستخدمة:

- مساهمة محمد عابد الجابري، و  وتقسيمه للنظم المعرفية إلى الأقسام الثلاثة: البرهان، والبيان، والعرفان.

 - مساهمة طه عبد الرحمن، وتقسيمه للنظم المعرفية إلى الأقسام الثلاثة: العقل المجرد، والعقل المسدد، والعقل المؤيد.

- مساهمة عبد السلام ياسين، وتقسيمه للنظم المعرفية إلى الأقسام الثلاثة: العقل، والنقل، والإرادة.

توجد إذن ثلاثة أنظمة معرفية:

- النظام المعرفي البرهاني/العقل المجرد/العقل

- النظام المعرفي البياني/العقل المسدد/النقل

- النظام المعرفي العرفاني/العقل المؤيد/الإرادة

تقسيم متطابق على غير اتفاق بين المفكرين الثلاثة الكبار ! لكن يبدو أن هذا التطابق في التقسيم هو نقطة الاتفاق الوحيدة بينهم.

ولفهم الموقف النقدي لكل مساهمة، وقيمتها، وحدودها، لا بد من استحضار الأسئلة التالية: ما طبيعة كل نظام معرفي؟ وما حدود سلطته؟ وهل هذه الأنظمة المعرفية متفاضلة أم متكاملة فيما بينها؟ وإذا كانت متفاضلة فما هو سلم التفاضل بينها؟ وبأي نظام معرفي نتحرر من عقلية وإرادة التابع المسحوب، ونبني عقلية وإرادة المتحدي لدخول مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة؟

نحو استراتيجية ذكية للمعرفة / المقال 3

نحو استراتيجية ذكية للمعرفة

المقال (3)

سلسلة يكتبها د. إدريس أوهلال


ما المعرفة؟ وما طبيعتها؟ وما أنواعها؟ وما قيمتها؟ وكيف يتم تحصيلها؟ وما دورها في حركية الأفراد والجماعات؟

يحمل لفظ "المعرفة" معاني متعددة تمتد من الاستعمال العادي واليومي إلى الاستعمال الديني والفلسفي والعلمي والتقني.

إن هذا التعدد في معاني المعرفة نابع أولا من تعدد أنواع المعارف؛ فالخبرات، والأفكار، ومعرفة العادات والتقاليد، ومعرفة اللغة، والمعارف الدينية، والمعارف العلمية، والمعارف التقنية... إلخ كلها أنواع مختلفة من المعارف.

إن معارف الفرد حول ذاته والعالم المحيط به هي المعارف الأولى التي يكتسبها. وتليها بعد ذلك معارفه حول العمل. وهذه المعارف (أي معرفة الذات والعالم والعمل) هي نفسها التي تؤمن تلاحم الأفراد فيما بينهم؛ أي تلاحم الجماعة. ويتشكل من معارف الأفراد والجماعة حول الذات والعالم والعمل "نظام للمعرفة".

في كل جماعة ومجتمع توجد أنظمة للمعرفة تحدد تراتبية المعرفة وقيمتها ودورها. وهذه الأنظمة هي أساس كل معرفة ممكنة داخل هذه الجماعة أو المجتمع وأساس الاستخدامات الجماعية والاجتماعية التي يقوم بها الأفراد وتقوم بها الجماعة للمعرفة. و"نظام المعرفة" هو مجموع المفاهيم والحقائق والإجراءات والعمليات والمبادئ الرسمية وغير الرسمية التي تحدد تراتبية المعارف وقيمتها ودورها.

إن تطوير استراتيجية ذكية وفعالة للمعرفة يقتضي  تحديد الاستخدامات الاجتماعية التي ستتم للمعرفة، لكن قبل ذلك لابد من البدء ب "الحفر" في البنيات الذاتية العميقة، الفردية والجماعية، لأنظمة المعرفة عندنا للكشف عن العوائق المعرفية والأخلاقية والسياسية المانعة لنا من دخول مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة بعقلية وإرادة المتحدي لا بعقلية وإرادة التابع المسحوب. وهذا ما سنقوم به في المقالات المقبلة.

نحو استراتيجية ذكية للمعرفة / المقال 2

نحو استراتيجية ذكية للمعرفة (2)

سلسلة يكتبها د. إدريس أوهلال


تعتمد الرأسمالية المعرفية إستراتيجية معرفية ذكية؛ فهي لا تحقن في عروق اقتصادها إلا المعرفة المرتبطة بصناعة الثروة، ولا تحقن في عروق سياستها إلا المعرفة المرتبطة بامتلاك السلطة. ويتيه العلماء والباحثون والمدرسون عندنا في الأراضي الشاسعة والبحار الواسعة  للمعرفة التي لا وزن لها في ميزان القوة العالمية والإنجازات.

لا بد لنا من إرساء إستراتيجية ذكية للمعرفة؛ لأن هذه "الطيبة المعرفية" التي تتعامل مع المعرفة على أنها بريئة ومحايدة، تبقي جهودنا في طلب المعرفة وترجمتها ومعالجتها ونشرها واستثمارها خارج اللعبة.

إن المعرفة لعبة، وبالمعنى الحقيقي للكلمة؛ أي أنها لعبة جادة. ويكفي لإدراك خٌلٌوّ معنى هذا اللفظ من المجاز وبأن الأمر جد، ملاحظة وجود لاعبين عالميين كبار في مجال البحث والتطوير والإبداع والابتكار، وأن "اللعبة المعرفية العالمية" منضبطة بحواجز عند الدخول، وبقواعد للعب، وبرهانات اقتصادية وسياسية تعطي للعب معناه واتجاهه.

نحو استراتيجية ذكية للمعرفة / المقال1

نحو استراتيجية ذكية للمعرفة (1)

سلسلة يكتبها د. إدريس أوهلال


المعرفة اليوم أصبحت نمطا جديدا للإنتاج، أي شكلا جديدا للسلطة، وأنتجت موجة ثالثة تسمى "اقتصاد المعرفة" و "مجتمع المعرفة".

وكعادتنا مع كل موجة جديدة انخرط "سفراء النوايا الحسنة" في الدعوة غير المشروطة إلى ركوب قطار اقتصاد المعرفة ومجتمع المعرفة، ووقف "حرس الحدود" بسلبية يحذرون ويصيحون ويعارضون.

ما لا يدركه الطيبون أن هذا النمط الجديد للإنتاج أنتج رأسمالية جديدة يسميها موليي بوتانغ ب "الرأسمالية المعرفية". وبتطور الرأسمالية الصناعية إلى رأسمالية معرفية أصبحنا أمام تهديدات ومخاطر من نوع جديد، لكن أصبحنا أيضا أمام فرصة تاريخية من نوع الفرص التي لا تتكرر سوى مرة واحدة في كل دورة تاريخية.

التهديدات والمخاطر الجديدة تتمثل في الآليات الجديدة لإعادة إنتاج نفس أسباب التقدم عندهم ونفس أسباب التخلف عندنا، والفرصة التاريخية تتمثل في نهاية عصر احتكار المعرفة. إن أهم مكسب لعصر المعرفة لا يكمن في الثورة المعرفية والثورة التواصلية، بل في التراجع الكبير لنسبة احتكار المعرفة؛ أي لنسبة احتكار السلطة مادامت المعرفة هي الموضوع الجديد للرهان الاستراتيجي على السلطة.

فهل من الذكاء ركوب هذا القطار؟ أم أننا سَنٌضَيِّع فرصة تاريخية أخرى برفض الركوب؟

إن قطار "اقتصاد المعرفة" تَسٌوقٌه وتٌسَوِّقه  "الرأسمالية المعرفية". والتحول نحو اقتصاد المعرفة ومجتمع المعرفة دون استراتيجية ذاتية ذكية للمعرفة هو مجرد لحاق باقتصاد المعرفة ومجتمع المعرفة العالمي؛ أي تكريس للتخلف والتبعية، وخدمة مجانية للرأسمالية المعرفية، وتضييع لفرصة جديدة للتحرر والتقدم.

فبأية رؤية واستراتيجية سنركب هذا القطار؟ ولمصلحة من سنركب؟ هذا هو السؤال.. لكن الأمل في الإجابة عنه يبدو بعيدا؛ لأن أغلب القادة عندنا ليس لديهم الصبر المطلوب لتطوير استراتيجيات ذاتية.